مميز
EN عربي

الفتوى رقم #44222

التاريخ: 19/01/2014
المفتي: الشيخ محمد الفحام

المعاصي التي يرتكبها المريض النفسي

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

السلام عليكم, هل يحاسب الله انسانا مبتلى بمرض نفسي و خصوصا ان كثيرا من هذه الاعراض من اشد المعاصي كاليأس من الحياة و عدم الرضا بالواقع و كل ما يعد محرما و ممقوتا في النفس الانسانية و خصوصا ان الكثير من هذه الاعراض ان لم اقل كلها ليست بيد المريض, و انما يحس بها لخلل في دماغه, لا أدري ان كان سؤالي دقيقا أم لا, لكن هل هناك أمراض نفسية حقا( عدا الجنون الصريح ) أم أن هذه الأعراض هي ارادية و انما شاء الأطباء تفسيرها بأنها خلل في العقل, و جزاكم الله عن الاسلام كل خير.

الجواب

عزيزي السائل بارك الله بك وأيَّدك بكل أسباب الخير والسداد؛ أقول: إنَّ مناط ما سألتَ عنه إنما هو الوسواس الذي مرجعُه الوهم الذي إن توسعت دائرته خلط على صاحبه الفكر, وأكثرَ فيه مداخلَ الحيرة وجعله في ضياع مستمر, وكثيراً ما يكون السبب سوء الفهم لِثوابت العقيدة التي هي الجذر الأساس لتوازن العبد في الدنيا ونجاته في المعاد, وعليه؛ فإنه إذا رجع إلى الله عبر الفهم الصحيح للعقيدة فاز ونجا وأفلح. فمِن أهمِّ هذه الثوابت معرفة الحكمة الربانية من إجادنا والتي هي منطلق الدلالة المعرفية, ففي قوله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) جوهر ذلك المعنى يقول أهل التفسير أي "ليعرفونِ" بتمام العبودية الخالصة للواحد الأحد الذي أحب أن نتعرف عليه به جلَّ في علاه. لذا لا يقع في بحر الأوهام إلا مَن غَفَل عن هذه الحقيقة, وظنَّ أنَّ عيشه في الحياة الدنيا أبديٌّ سرمدي, فيغدو وكأنه دهريٌّ يعيش لأجل سعادة وهمية غَرور, فإذا قَلَّتْ في يده سخِط, وإن خولف عن مراده غضِب, وإن أقبلت عليه رضي وفرح, فيصدق عليه قول المولى عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح, وإن لم تلد امرأته, ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء" فمن علم أن الحياة في الدنيا أيامها مدودة, وأن حياته الحقيقية إنما هي في تلك الدار الآخرة, وأن السعادة في راحة المكانة السامية بقرب الخالق, وأن ذروة العطاء في نعيم الرضى بقضاء الله العالِم بالأقدار فقِه عن المولى أثر الاعتناء بالتكاليف, وأنها الأساسُ لبناء استقراره السرمدي المرتبط بلقاء الله تعالى على ما يرضيه لحسن الختام. من جانب آخر؛ أقول ربما كان يأسُه نابعاً من تأخر أمدِ العطاء, ولكنْ ربما فاتَه أنَّ المولى سبحانه يجيب العبد بحكمته الجليلة التي هي وضعْ الشيء في محله وبما هو أهله جلَّ في علاه, يقول ابن عطاء "لا يكنْ تأخُّرُ أمدِ العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك, فهو ضَمِنَ لك الإجابةَ فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك, وفي الوقت الذي يريد, لافي الوقت الذي تريد" يقول أحد الشراح: "اطرح نفسَك على بساط التسليم, وقل: يارب؛ أنت أعلم بحالي دعوتُك فأنلني, ورضِّني بما تختاره لي في الوقت الذي تريد, لافي الوقت الذي أريد وكيف ما تشاء لا كيفما أشاء فأنت الخالقُ الحق والمالكُ الحقُّ والمدبِّرُ الحقُّ والعالمُ الحق بأحوال الخلق", فَقَيْدُنا يحجُبنا, وإطلاقُه بالعطاء ينفعنا, ولا ييأس من الحياة الآنِيَّة إلا المأسورُ لها, ولا يؤسر لها إلا الجاهل بحقيقتها, ولا يسخط على العباد فيما يعطَون إلا من غفل عن الحكمة الربانية بجهله حقيقةَ مقام العبودية بين يدي العظمة الإلهية, ولا يبعد عن جوهر المعرفة إلا من هجر كتاب الله تعالى بالكليَّة, فكثيراً ما يكون الخللُ في الاعتقاد لا في الدماغ, لذا فلابد من التثبُّت عبر معروض كتاب الله تعالى, والحوار والإقناع, ولابد من صحبة الأخيار الأبرار أهلِ فقه النفس الربانيين الذين خصَّهم ربُّ الأنام بمناهج السلوك الحقَّة فالصاحبُ ساحب, وسريانُ الحال منه لغيره حتميٌّ مادامت الصحبة وكانت خالصة. ثم إن الأصل في المرض النفسي أنه وهميٌّ تُحلُّ عُقَدُهُ بالذكر والمذاكرة فهما دواءان ناجعان لابديل عنهما والله تعالى أعلم. أما أنه يحاسَب أولا يحاسب؟ فلهذه المسألة تفصيل لطيف؛ أقول: لا يحاسب إن شاء الله تعالى عن الهواجس والخواطر وحديث النفس والهمِّ مالم يعزم على ما يخالف شرع المولى سبحانه, أما إذا ارتقى قصدُه إلى مستوى العزم ثم تُرجم بقول أو فعل مع سلامةِ العقل فلاشك أنه محاسب اللهم إلا أن يتوب, ويستغفر, فإن ربي واسع المغفرة رؤوف رحيم. أسأل الله تعالى أن يتولاه بعين العناية والرعاية ويمتِّعه بتمام العافية ويرده إليه رداً جميلا.