مميز
EN عربي

الفتوى رقم #44007

التاريخ: 11/01/2014
المفتي: الشيخ محمد الفحام

من حقائق وضوابط الخشية من الله تعالى

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله وصحبه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد ماهي حقيقة الخوف من عالم الغيب والشهادة اللذي يعلم السر وأخفى بالنسبة للمؤمن البكاء في الصلاة وعند قراءة القرءان وعند سماع القرءان وهل يجوز البكاء بصوت مرتفع في الصلاة المكتوبة مع التلاوة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولاتنسونا من دعائكم لي

الجواب

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ أخي المبارك إنَّ ما ذكرتَ إنما هو ثمرةٌ ونتيجةٌ لمقدمة أصلُها مقامُ المراقبة لعالمِ السرِّ وأخفى جلَّ في علاه, فالمراقبة أدبُ البصر والبصيرة بين يدي من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولافي السماء عبر ما أُمر ونُهِيَ وكُلِّفَ بإخلاصِ النية مع رجاء القبول وحبِّ رضاه سبحانه, فإنَّه إذا عَمَر القلبُ بضياء ذلك المقام نما فيه نور الإيمان زيادةً, وعظُم في سويدائه شأنُ الفهم عنه وإدراك عظمة الله تعالى بإدراك العجز عن مطاولة ذلك المقام, فيتضاءل العبد المكلف بين يدي الجلال الإلهي ليتولد بعدها خوف يستحوذ على القلب ويتضاعف إلى مستوى الوجل من الحرمان أو عدمِ القبول ما يدفَعُه إلى الرجاء بالدخول في رحاب الرحمة الإلهية فيطمع بالستر والعفو وهو صادقٌ في الطلب لينشرح الصدر ويُغْمَرَ القلبُ بشعور ينسابُ البدن فيُترجَم بالبكاء ثم يعيش أملَ الخائف الراجي, ويتنامى هذا الحال بين طرفي الرجاء والخوف إلى أن يغدو مقاماً يعرج من خلاله في معراج المعارف الربانية ليأنس بعدها في محراب العبودية الخالصة. فحقيقةُ الخوف منه سبحانه تكمُن في معرفته وإدراك حكمته, والتمكن من عمل يحبه ويرضيه جل في علاه. فالواقف بين يدي الله تعالى في الصلاة, والعاكف في محراب الدعاء, والراجي العفوَ في محور البلاء سواء إذا خشي ربَّه فإنَّ الدائرة واسعة, ولكنَّ القطبَ واحد شؤونٌ تسبح في فلك الجلال وتَعْرُجُ من خلاله. لذا فلا وصول إلى ذي الجلال إلا عبر ذلك الإجلال, فهو من أجلِّ النعم لأنه يحجز العبدَ عن الغفلة والمخالفة, وقد عُدَّ من أماراتِ الكمال في إيمان العبد لقوله تعالى: (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ومعلوم أنَّ الإيمان محلُّه القلب والخوف سراجُه وبه يدرك أثر الخير من الشر, يقول بشر الحافي رحمه الله تعالى: "الخوفُ من الله تعالى ملَك لا يسكن إلا في قلب متقٍّ". يُهيمن عليه حالٌ من الجلال والهيبة يدفعانه للفِرار إلى الله تعالى ودوام اللجوء إليه والتحقق من الافتقار الدائم لديه, فتسخو عَبْرَتُه مسترحماً خالقَه وترخُصُ عليه دنياه مقابلَ موعود الحق للخائفين يوم الفزع الأكبر أنهم لا يحزنون إذا حزن الناس, وهنا يزيَّن ظاهرُه بنور باطنه السليم, الذي أعان الجوارح كلَّها على الانتظام في نظامِ الشرع وضوابطه, فيقال: لا يكفي العبدَ البكاء دون الانكفاء, ولا ينفعه التخشع دون التضرع, ولا يُقَرِّبُه الكلام دون الملام, لأنَّ الأصل عند الخائف أن يكون بين ذكر وفِكر وعمل ورجاء, فلا يوصله التمني ولا الأماني دون العزم على بلوغ المعاني, فينبغي مَن هذا حاله أن يرجو حسن الختام وإن بلغ ما بلغ من الدرجات والمكرمات مادام في دار التكليف لعلمه بدوام المطالبة. سألت السيدة عائشة رضي الله عنها يا رسول الله؛ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لا, ولكن الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه) يقول الحسين بن منصور: وإنَّ مما أوجب شدةَ خوفهم فكرُهم في العواقب, وخشيةُ تغيُّر أحوالهم قال تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) ثم اعلم بعد ذلك كلِّه أخي المؤمن؛ أنَّ الخوف ليس بتعمُّد البكاء أو تكلُّفه وحُبِّ إِظهاره بين الخلق, ولكن بدوام المراقبة بين يدي من لا يغفل ولا ينام, فإنْ غلبَنا البكاء فلا حرج وذلك لخروجه عن الإرادة النفسية, الشأن الذي لا يمكن أن يشوبه رياء, ومع هذا فلقد كان بعضُ السلف يخفي عَبْرَتَه عن أقرب الناس خشية تحرُّك الحظ كي لا يُحْجَبَ عن مراقبة الجليل بحجاب النفس الظلماني. أما سؤالك عن البكاء في الصلاة فهو منتظم فيما ذكرنا فإنْ غلبَه خشوعاً وتضرُّعاً عبر التلاوة والتسبيح فلا حرج, اللهم إلا إذا تباكى متصنِّعاً فتعمَّد إخراج بعض الأصوات الخارجة عن أصل حرف القراءة وأفعال الصلاة فعندها يُحكم بفساد الصلاة لطُرُوِّ شيءٍ أجنبي عنها. وفقكَ الله تعالى لما فيه رعاية قلبك وقالبك بضياء المراقبة, وجلال الخشية, وجمال الرجاء, وستر الرحمة الشاملة بجميل عفوه, وسرِّ الإخلاص له سبحانه على التوحيد. آمين ولا تنسني من دعوة صالحة أخي الكريم.