مميز
EN عربي

الفتوى رقم #42680

التاريخ: 28/09/2013
المفتي: الشيخ محمد الفحام

ماهي حقيقة الابتلاء بالنسبة إلى المؤمن

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم وأصلي وأسلم على سيدى وحبيبي وقرة عيني محمد صلى الله عليه وسلم اللهم صل وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد صلى عليه وعلى ءاله وأصحابه وعلى المهاجرين والانصار وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحق المعلوم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ماهي حقيقة الابتلاء بالنسبة إلى العبد المؤمن والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الجواب

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ الابتلاء هو الاختبار, والإنسان مبتلى على العموم في الدار الدنيا, غير أن ابتلاء المؤمن يختلف عن غيره بحكم خصوصيته ذلك أن شأن الإيمان شأن علويٌّ معرفي فالمؤمن ذائقٌ طعم إيمانه أي تصديقه بربه وشهوده لشؤون خالقه, فمن ذاق طعم الإيمان ذاق طعم الرضى كما الإشارة في الحديث الصحيح:(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً). ومن ذاق طعم الإيمان بالله لا يمكن أن يميل إلى شيء سواه, وعليه فيأتي البلاء بأنواعه من رخاء وشدة بلسماً شافياً للإشارة إلى عدم غفلته وركونه إلى زخرف الدنيا وبهرجها فإن أقبَلَتْ أهلكَها في الطاعة ومسالك البر وقضاء الحاجات, وإن أدبَرَتْ رضِيَ بما قَسَمَهُ الله وعاش حميدَ الشُّهودِ للحكمة الإلهية فيما أعطى ومنع, وإن ابتُلِيَ في بدنه ردَّ الحقَّ إلى خالقه وعاش عافية الأدب مع المتصَرِّف الحكيم والمالك الحقيقي ولسان حاله يقول: (لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار, وبأجل مسمى ) أي ؛ (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى). ليغدوَ من أهل القرب, وكلما اشتدَّ بلاؤه دلَّ على ذلك, وكان من أهل الاجتباء لعظيم المكانة, فتجدُ مريضَ الحِسِّ فيهم كامل العافية في المعنى لجلال الدائرة الوجدانية التي يعيشها, وأعظم مجسِّدٍ للمعنى الحديث القدسي الصحيح: (يا ابن آدم مرضتُ فلم تَعُدْني, قال يا رب كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال أما علمت أنَّ عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه؟ أما علمت أنك لو عُدتَهُ لوجدتني عنده). فقد قال سبحانه (عبدي) دلالةً على شرف ذلك العبد الذي رضيَ وسلَّم بإضافة التشريف لأنه عبدٌ خالص العبودية لربه. فالذائق لطعم الإيمان هو من أبصر نورَ الحكمة الإلهية فيما يُقَدِّرُ فعلم أنه يكمُن تحت كلِّ مقدور منافع جليلة وعطايا كريمة يمتد قطاف الثمر فيها من الدنيا إلى العقبى. ويعلم أن الكمال فيما برز من ذلك المراد الإلهي فيدرك بهذا الفهم أن منع الله في الظاهر عطاءٌ في الحقيقة. لكن لنعلمْ أن هذا لا يتأتى ولا يتحقق إلا من المؤمن وللمؤمن، بخلاف المنافق الغافل عن حكمة الحق سبحانه بظلمة الحظ وحجاب الشرك الخفي يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارةً لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أُعْفِيَ كان كالبعير عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثم أرسلوه فلم يدرِ لم عقلوه ولم يدرِ لم أرسلوه). أخرجه أبوداود ثم إنَّ جوهر الحكمة في الابتلاء هو إبراز حقيقة المحبة الخالصة التي تنطق العبد بحرفها وهو حالة الرخاء أنه يصبر صبر الراضيين أي الصبر الجميل الذي لا لجج فيه لأن فعل المحبوب محبوب ولقد كان أحدُ الأولياء إذا أصيب ببلاء تبسَّمَ فكان إذا سُئِلَ قال: أمراً أحبه الله فأحببناه. لما قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). أثنى في ختامها على الصابرين فقال وبشر الصابرين مُسْتَهِلاًّ بعدها بالتوصيف (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم...) أي هم الذين يترجمون ذلك الصبر الجليل بنور العقيدة المترجمة عظمة اليقين بالرجوع الحميد إلى الحق سبحانه (إِنَّا لِلّهِ) أي لا لأحد سواه وذلك هو الحبُّ الخالص للمالك الحقِّ الذي ما خَلَقَنا إلاّ لنعرفه فردَّنا إليه بألوان من المِحَن تجليةً لأحقيَّةِ المِنح التي هي الثمر بعد جُهْدِ العمل , والسيادة التي ينالونها بعد تمام التحقق بالعبودية لله ثم جعلهم أسوة لغيرهم . يقول الحافظ المناوي في شرحه حديث(أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونه) لتتضاعف أجورهم وتتكامل فضائلهم ويظهر للناسصبرهم ورضاهم فَيُقْتَدَى بهم. هذا ؛ وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الصالحين من أهل البلاء بقوله(...ويُبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلاّ العباءة يلبسها, لَأحدهم أشدُّ فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء) يقول الحافظ في الفتح عن ابن الجوزي : كلما قَوِيَتِ المعرفةُ بالمبتلى هان عليه البلاء, ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء, _ثم قال_ وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء, وأنهى المراتب مَن يتلذّذُ به لأنه عن اختياره نشأ. قلت: أجل؛ فليس غربياً لأنَّ لذة المحبة الإلهية تغمر صاحبها بالأنوار فتضيء أرجاءَ حسِّه لتُنيرَ على العائدين فيستقوا العِبَرَ والفوائد بمجرَّد النظر إلى مَن نظر الله إليه وهو سقيم الجسم معافى القلب فأبرز عافية المعنى التي هي الأصل والأعلى في الشأن والجوهر . مرض سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه _مرض الموت_ فعادوه فقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ألا ندعوا لك طبيباً؟ قال: قد رآني الطبيب, قالوا: فماذا قال لك؟ قال: إني فَعَّالٌ لما أريد. وهذا أبو الدرداء يشتكي مرضاً فيعوده إخوانه قائلين: ما تشتكي يا أبا الدرداء؟ قال أشتكي ذنوبي, قالوا فما تشتهي؟ قال أشتهي الجنة _أي لقاء_ قالوا: أفلا ندعوا لك طبيباً؟ قال: هو الذي أضجعني. أي إنه يعيش مُرادَ محبوبِه, فيرى ذلك عين العافية. لذلك كان من آخر ما نطق به في مرض موته هذه الكلمة الواعظة: إنَّ اللهَ إذا قضى قضاءً أحبَّ أن نَرضى به . أقول: ولا رضى إلاّ بكمال الحب فإذا رضينا دلَّ على حبِّه لنا. أصغي معي الآن إلى أجمل ما غادر عليه الصحابي الجليل سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه دنياه _وهو مطعون_ قوله: أعوذ بالله من ليلةٍ صاحبُها إلى النار, مرحباً بالموت مرحباً زائرٌ مُغِبٌّ حبيب جاء على فاقة . اللهم؛ إني كنت أخافك, فأنا اليوم أرجوك. اللهم؛ إنك تعلم أني لم أكن أحبُّ الدنيا وطولَ البقاء لجَرْيِ الأنهار ولا لغرس الأشجار, ولكن لظمأ الهواجر, ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالرُكَبِ عند حِلَقِ الذكر. وكان رضي الله عنه كلما أفاق من سكرة الموت وغشيه غشيانُه ناجى ربه راضياً: ربِّ اخنقني خنقتك فوعزَّتك إنك لتعلم أنَّ قلبي يحبُّك. في الختام ألا فلنعلم أن المؤمن مع الله في بلائه هو حالُه معه سبحانه في رخائه لأنَّ المعيَّة تعني العيش رضى في دائرة المراد من أجل الدخول في دوحة الرعاية والعناية ولكن لكلِّ مَنْ فَقِه عن المحبوب الأول سبحانه حكمةَ الخلقِ والإيجادِ في هذه الدار.