مميز
EN عربي

الفتوى رقم #36049

التاريخ: 01/11/2012
المفتي: الدكتور محمد توفيق رمضان

مصدر الوسواس القهري وعلاجه

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

كيف أعرف أني كفرت أو أشركت بالتفصيل الممل وما هو ثواب قتال الوساوس في النفس وكيف أعرف أني اعتقدت بالوساوس وكيف أبعدها عني وهل الشعور أني كافرة هو وسواس من الشيطان أم أنه لأني كفرت بالفعل وما هي علامات الكفر وكيف أعرف أني كفرت اجبني والله يطول بعمرك ويزيد فضلك ويبارك فيك وبأولادك ويجعل مثواك الجنة

الجواب

أحلت هذا السؤال إلى الأستاذة رفيف فأجابت بما يلي: شكرًا على دعواتك وكلماتك الطيبة، أسأل الله تعالى أن يجازيك بالمثل أيضًا... أرسلت إلينا تسألين وتودين معرفة كيف يكفر الإنسان أو يشرك، لكني لن أجيبك عن هذا لأنه ليس دواؤك، وليست إجابتك! فما تعانين منه وسواس قهري لا أكثر، ولا علاقة للأفكار التي في عقلك بالكفر لا من قريب ولا من بعيد... والوسواس القهري عبارة عن إشكال تختل فيه بعض الناقلات العصبية في الدماغ، أهمها السيروتونين، فتجعل من الصعب على الموسوس أن يتخلص من فكرة مرت بذهنه، وإذا بالفكرة تلتصق برأس المسكين، وتظل تدور، إلى أن يظن أنه السبب فيها وأنه يعتقدها حقًا، في حين أنه يكرهها ويقلق منها، ولا يمكن أن يقبلها بحال من الأحوال... ولعل هذه الحال المرضية المتعبة التي يعيشها الموسوس، يغتنمها الشيطان، فيلقي في ذهنه وساوس وأفكارًا في الشرك والكفر والطهارة، والصلاة، وغير ذلك، ليتعبه، ويشغله عن الطاعة، ويدخل الحزن إلى قلبه، فمن مهماته الخبيثة إدخال الحزن إلى قلوب المؤمنين، قال تعالى: ((إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا)) [المجادلة:10] فأما أن الوسواس مرض، فالتجارب الطبية أثبتت أن الناقلات العصبية لدى الموسوس تكون غير سليمة، وأنه يذهب بتناول الأدوية التي تنظم تلك الناقلات... وأما أنه من الشيطان فللحديث الصحيح الذي رواه سيدنا أبو هريرة –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « يأتي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ» [البخاري: بدء الخلق/باب صفة إبليس وجنوده، مسلم: الإيمان/باب بيان الوسوسة في الإيمان]. وروى مسلم في صحيحه أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاتي وَقِرَاءَتِي، يَلْبِسُهَا عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاَثًا ». قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.[مسلم: السلام/ باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة]. وروى أبو داود عن أَبُي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَشَيءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ: وَضَحِكَ. قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ ،قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ((فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)) الآيَةَ. قَالَ: فَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)). [أبو داود: الأدب/ باب رد الوسوسة، وإسناده جيد، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يشك، وإنما الآية خطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد بها غيره ممن يشك، وهذا وارد في لغة العرب، وهذا ما قصده ابن عباس رضي الله عنه من استشهاده بالآية]وإذا ثبت أن سبب الوسواس اختلال عضوي، وأفكار شيطانية، فدواؤه يكون بمراعاة هذين الأمرين فأما الأفكار التي يلقيها الوسواس، فدواؤها الاستعاذة والاستعانة بالله تعالى، وإهمالها وعدم التفكير فيها، وهذا صريح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولينته))، وقد قام أحد الأطباء النفسيين بتجربة، أمر فيها مجموعة من الموسوسين بالاستعاذة بالله من الشيطان، إضافة إلى العلاج الدوائي والنفسي، فأبدوا تحسنًا ملحوظًا مقارنة بالمجموعة التي لم تقترن الاستعاذة فيها بالعلاج. في بداية تطبيق هذا الحديث ومحاولة إيقاف الأفكار وإهمالها، ستجدين القلق والتوتر قد زاد...، لكنه يخف شيئًا فشيئًا إلى أن يزول، والتطبيق الجيد لهذا كفيل بإزالة الفكرة الوسواسية خلال خمسة عشر يومًا. إذن لا ينفعك قتال الوساوس ومناقشتها البتة، بل هي تزيد من معاناتك، وتسعد الشيطان إذا يشغلك بها عن الأعمال الأخرى المفيدة، وهذا جواب سؤالك: (وما هو ثواب قتال الوساوس في النفس؟) . العلاج: أن تتركي الأفكار تدور في ذهنك، دون أن تكترثي بها، وتنشغلي بأمر آخر يلهيك عنها، وكلما جاءت قولي للشيطان: وسوس ما شئت أن توسوس، فقد اكتشفت أمرك، ولست بكافرة، فما أصابني أصاب الصحابة من قبلي ولم يصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر، بل على العكس، وصفهم بالإيمان!!! فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: ((جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ»)). [مسلم: الإيمان/باب بيان الوسوسة في الإيمان]. فالنبي صلى الله عليه وسلم –فداه أبي وأمي- لم يشنّع على هؤلاء الموسوسين في عقيدتهم، ولم يهوّل عليهم ولم يصرخ في وجههم، بل أجابهم بعبارة ملؤها الطمأنينة والهدوء: ((وقد وجدتموه؟)) وكأن هذا شيء متوقع لا خوف منه. ثم قال: ((ذاك صريح الإيمان))! أي اطمئنوا يا من وُسوِستم في عقيدتكم، لأن إيمانكم لو لم يكن قويًا خالصًا، لما أزعجتكم وساوس الشيطان هذه، ولما استعظمتم ورودها في أذهانكم، فضعيف الإيمان تعجبه هذه الأفكار وتميل نفسه معها حيث مالت. إنه لا شك ولا ريب، كلام رسول الذي خلق البشر ويعلم ما يصلحهم وما يداويهم! وبالفعل، فالأطباء يذكرون أن الوساوس تأتي الإنسان في الأمور التي يكون لها عنده أهمية خاصة. فلولا حرصك على الإيمان، وحبك لله، لما جاءتك الوساوس في هذا الموضوع... ثم إن الوساوس خارجة عن إرادتك، وتقتحم رأسك رغمًا عنك، والله تعالى لا يحاسب الإنسان إلا على ما كان ضمن وسعه قال تعالى: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286]. وإذا كنت غير محاسبة عليها، فهذا يعني أنك لم تكفري بملازمتها لذهنك... هنا يأتي سؤال متكرر: لقد استعذت بالله كثيرًا وما زال الوسواس يقض مضجعي، ثم إنه لا يذهب في رمضان رغم أن الشياطين تصفد فيه!! أولًا: ليس المطلوب في الشفاء أن تذهب الأفكار كلية، ولكن يكفي أن يزول قلق الموسوس منها، ويصبح ورودها عليه وعدمه سواء. ثانيًا: هذا يقودنا إلى علاج السبب الثاني من أسباب الوسواس، فالاستعاذة وإهمال التفكير، والاقتناع أن الوسواس غير ضار في العقيدة..، دواء تخزين به الشيطان وتطردينه. ويسميه المختصون النفسيون: "العلاج المعرفي السلوكي"، لأنه يصحح أفكار الموسوس، وأفعاله تجاه ما يعتريه... لكن هناك سبب آخر للوسواس لابد من أخذه بالاعتبار، وهو السبب العضوي...، وكما كان دواء الشيطان بالاستعاذة والدعاء، فدواء ذلك الخلل بالذهاب إلى الطبيب، وتناول الدواء المناسب تحت إشرافه... وبالمناسبة: لوحظ أن نسبة الانتكاسة بعد إيقاف الدواء لمن يكتفون بالعلاج به فقط هي 50% !! بينما نسبة التحسن والمحافظة عليه عند من يضيف العلاج المعرفي السلوكي، للدوائي تكون أكبر بكثير. وعلمت أن العلاج المعرفي السلوكي هنا هو الاستعاذة والدعاء والكف عن التفكير، والاطمئنان بقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوساوس لا تضر، وأنها صريح الإيمان... والخلاصة بعد كل هذا الجواب المطول: إذا أردت التخلص مما أنت فيه، فعليك تطبيق ما أمرنا به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فإن اشتد الأمر عليك، ولم تستطيعي تحمل القلق الناتج عن هذا، وتأخر الشفاء عن شهر، فعليك زيارة الطبيب ليساعدك. أعلم ثقل هذه الزيارة، ووصمة العار التي تلحق زائر العيادات النفسية في بلادنا، لكنها –وتأكدي- تظل أهون من عذاب الوسواس، كما أنه ليس من الضروري أن تخبري أحدًا بذهابك. أسأل الله تعالى لك الشفاء وهدوء البال، وأتركك في أمان الله وحفظه.