مميز
EN عربي

الفتوى رقم #3461

التاريخ: 02/12/2020
المفتي: الشيخ محمد الفحام

هموم شاب ملتزم

التصنيف:

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بلغت من العمر الان 25 سنة ولا أريد أن ألقى الله سبحانه وتعالى على هذه الحال التي أنا عليها من الذنوب والمعاصي والقلب كثرت فيه النكت السوداء ولا أعرف ماذا افعل، أريد أن ألقى الله وقلبي لا تشوبه أي شائبة، ألقاه وهو في تمام الرضى عني، أريد أن أقضي حياتي ممتثلا للآية الكريمة التي وصفت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، أريد أن أكون ممن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض فيفرح لرؤتي وأكون ممن أشتاق لهم النبي، أريد أن أكون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. ماذا أفعل فنفسي ضعيفة وذنوبي قصمت ظهري للدرجة التي أستشعر معها أحيانا أنني بعيد جدا جدا عن مرادي ولن أصل له، وعلمي بالله قليل وخوفي من الدنيا كبير ولا يوجد لي شيخ أو صديق حميم يعين على الوصول

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته؛ أخا الإيمان إنَّ مَطْلَبَكَ بصيغةِ أريدُ وأريدُ، وأريدُ...الخ... قد يُتَرْجِمُ معانيَ رؤيةِ الاستعدادِ في النَّفْسِ والتَّحَدِّي وهذا خطيرٌ في حَقِّ مَنْ يَرجو الخيرَ لِنَفْسِهِ، فلا خيرَ مع مَطالبِ الاعتدادِ وذلك لِعِلَّةِ تغييبِ مقامِ الافتقارِ لِلْغفَّارِ، ولا أَدَقَّ لِتَصْويرِ هذا المعنى الدَّقيق مِنْ كلامِ الإمامِ الشهيدِ السَّعيد البُوطي عليه رحماتُ الله تعالى حيثُ يقول في كتابِهِ النَّافع السَّلَفِيَّة: ولكن العبدُ إذْ يَبْسُطُ كفَّهُ إلى الرحمنِ يسأَلُهُ جنَّتَه ويستعيذُ مِنْ عذابِهِ يجبُ أنْ يفعلَ ذلك طَمَعاً بفضلِهِ وغُفْرانِه، وأَمَلاً في أنْ يَتَجاوزُ الرَّبُّ عن سيئاته، فيعاملَه بما هو شأنُه جل جلالُه مِنَ الصفحِ والغُفْرانِ، ولا يُعاملَهُ بما هو أَهْلُه مِنَ المؤاخَذَةِ والعِقاب.

ومهما كان العبدُ في استِقامَتِهِ وعُلُوِّ شأنِهِ وقُرْبِهِ مِنَ اللهِ تعالى، فما يَنْبَغِي أنْ يكون دعاؤه وطَلَبُهُ إلا على هذا الوجه، وقد صرَّحَ بذلك المصطفَى صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: (لن يُدخِلَ أحَدَكُمْ عملُه الجنة، ولا أنا إلا أنْ يتغمَّدَنِيَ اللهُ برحمتِه..)

وعليه؛ أخي الكريم! فأَحْرَى بنا جميعاً أنْ نَتَوَجَّهَ إلى اللهِ تعالى بالاسْتِرْحامِ وطلبِ العَفْوِ والمغفرة فإنَّه سبحانه وتعالى يُحِبُّ مِنْ عبدِهِ ولِعَبْدِهِ دوامَ الافْتقارِ إليه، لاسيَّما وأنت مُعْتَرفٌ بِكثرةِ الذنوبِ وحالِ التَّقْصير، وضَعْفِ الإرادةِ، فمَنْ هذا حالُه أكثرُ ما يَنْفَعُهُ العُكُوفُ في محرابِ التَبَتُّل بشهودِهِ ضعفَهُ بين يدي مولاه القَوِيِّ، وقد عَلَّمَنا الرَّبانيُّون أنْ نُكْثِرَ من هذا الدعاء: [إلهي! ما عَصَيْتُكَ جُرْأَةً، بل ضعفاً، فيامَنْ أَعَذْتَنِي مِنَ الجُرأةِ إني ضعيف _وأنت أعلم_ فَقَوِّ في رضاكَ ضَعْفِي] فإنَّ التَّحَقُّقَ _أخي الكريم_ بالضَّعْفِ مع أَطْرِ النَّفْسِ على عدمِ استحقاقها لأيٍّ مِنَ الرتَبِ العالِيَة عامَلَكَ المولى الكريم بما هو أَهْلُهُ، كيف لا وهو القائلُ: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) وكما في الحِكَمِ العطائية: [تَحَقَّقْ بأَوْصافِكَ يُمِدَّكَ بأوصافِهِ] تَحَقَّقْ بِضَعْفِكَ يَمِدَّكَ بأسبابِ قُوَّتِهِ، تحقَّقْ بِذُلِّكَ يُمِدَّك بأسباب عِزِّه... وهكذا إلى أنْ تذوقَ طعمَ التَّجَرُّدِ مِنْ رؤيةِ عمَلِكَ وتَعيشَ أُنْسَ السَّلامةِ من الانْشغالِ بسواهُ سبحانه حتى الطاعة، فَكَمْ مِنْ عابِدٍ لما جَعَلَ مِنْ طاعَتِهِ غايةً لِمَقْصِدٍ نَفْسِيٍّ مِنْ هوى المقاماتِ والدرجاتِ والوِلايات ما يَحْجُبُهُ عن الآمر سبحانه وتعالى، فاحْرِصْ على أنْ لا تُحْجَبَ بهوى النَّفْسِ مِنْ هذا النَّوْعِ وتَمَثَّلْ حالَ العابِدِ الأوَّلِ الحبيبِ الأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم الذي لما سُئِلَ عن سببِ طولِ قيامِهِ في الليل حتى تَورَّمَتْ قدمَاهُ فأجابَ بما حُفِظَ في ضميرِ أَجيالِ الأُمَّةِ: (أفلا أكونُ عَبْداً شَكُوراً) فلم يَقُلْ (أفلا أكون عبداً شاكراً) وذلك لِلْفَرْقِ الكبيرِ بين الشاكِرِ والشَّكورِ، فالشاكِرُ هو الذي يَشْهَدُ الْمُنْعِمَ مِنْ خلالِ النِّعْمة، وأما الشَّكورُ فعلى العَكْسِ تماماً هو الذي يَرَى النِّعْمَةِ بشهودِ الْمُنْعِمِ وشَتَّان شَتَّان، ذلك أنَّ الأَوَّلَ لا يَتَخَطَّى مَقامَ الصبرِ، أما الثاني؛ فارتقاؤه إلى مقام الرضى عند الفَقْدِ شاهِدِ الفِطْرَةِ السَّليمةِ التي فَطَرَهُ اللهُ تعالى عليها وذلك هو مَصْدَرُ الفَخْرِ الذي نَطَقَ به الشاعِرُ لَمَّا قال:

              وممَّا    زادَني   شَرَفاً    وتِيها           وكِدْتُ بأَخْمَصِي أَطأُ  الثُرَيَّا

              دخولي تحت قولِكَ يا عبادي          وأنْ صَيَّرْتَ  أحمدَ   لي نبياً

أجل! فمولانا الرحيم هو القائل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

وهو القائل سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) فأسأل اللهَ تعالى لكَ _يا أخي الطيِّب_ أنْ يُحَقِّقَكَ بكمالاتِ الافْتقارِ للغفَّار دون تعويلِ على أيِّ عملٍ أو مَطْلَبٍ سوى رضاه. آمين يا رب العالمين

هذا؛ ولا تَنْسَ أنْ تَخُصَّنِي بدعوةٍ خالِصَةٍ مِنْ قلبٍ مُفْعَمٍ بالتَّخْلِيَةِ والتَّجَرُّدِ، ومن ثم التحلية المعرفة بالتفريد النام في التوحيد للحميد المجيد.